العمارة المستدامة

العمارة المستدامة

المقدمة

خُلقنا فيها لنُعمّرها و نبنيها، و نزيد من إزدهارها و ديمومتها. توفرت لنا جميع المواد اللازمة لنحيا بصحة و راحة ما دمنا على سطحها. لكن شرعنا بإستنزاف ما فيها و التأثير سلباً عليها – مناخها و مواردها – حتى تفاقمت الأضرار من إرتفاع درجات الحرارة (الإحتباس الحراري) و غيرها من المشاكل البيئية التي أثرت سلباً عليهاو على حياتنا و صحتنا، دون أن نشعر بالتأثير مباشرة.
فقد أثبتت دراسات علمية عن مدى تأثير المخلفات البلاستيكية الكارثي على جميع ما هو حي على وجه الأرض. لذا، وجبت العودة إلى العمارة المستدامة، العمارة الخضراء.
و كما قال هولي ويل (Holliwell): ” نهج الطبيعة لا يعرف الخطأ.. فجميع خططها تؤول للنجاح. فهي تهدف الى الناتج الإيجابي بجميع أشكاله و أساليبه. علينا أن نتبع خطاها كي نصل للنجاح بصورته الكامنة و على المدى البعيد. علينا أن نكتشف أسرار تفوقها عن طريق القواعد و القوانين التي تسير على نهجها.[1]

 

قال تعالى
{ وَاذكُروا إِذ جَعَلَكُم خُلَفاءَ مِن بَعدِ عادٍ وَبَوَّأَكُم فِي الأَرضِ تَتَّخِذونَ مِن سُهولِها قُصورًا وَتَنحِتونَ الجِبالَ بُيوتًا فَاذكُروا آلاءَ اللَّـهِ وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ } سورة الأعراف 74

[1] Working With The Law by Raymond Holliwell, DeVorss & Company, Jan. 1985. تُرجِمت بِتصرف

ما هي العمارة المستدامة ؟

أولاً : ما هي الإستدامة؟!
ما تعنيه الإستدامة بصورةٍ عامة؛ عملية الإبقاء على عملِ فعلٍ معين بنفس الكفاءة و لأبعد مدى. و بما أن الإستدامة تعمل على جميع النواحي الحياتية، للإبقاء و المحافظة على ما تم العمل عليه للأجيال القادمة بأفضل الطرق و الأكثر أمناً للإنسان، فهي القابلية على الإدامة أو القدرة على التحمل.
و حيث يتواجد الإنسان مع الطبيعة بتمازج إيجابي، يعمل كلٌ لأجل الآخر بإنسيابية، تراعى فيها جميع النواحي الإجتماعية و الإقتصادية و ما هو قادم للأجيال.
تختلف و تزداد تعاريف الإستدامة كلٌ حسب منطقته و نظرته لإحتياجات بيئته و مجتمعه، لكن تجمعهم نقاط مفصلية لا غنى عنها، و يمكن – غالباً – ملاحظتها في أساليب حياة الناس (من ملبسٍ و مأكل و طرق الحصول على كل منها و غيرها من الأساليب).

ثانياً : العمارة المستدامة.
أما بالنسبة لمصطلح العمارة المستدامة، فيُستخدم للمباني المُصممة للحد من التأثير السلبي على البيئة المحيطة (سواء من تأثير المبنى – من أول حجر أساس و أعمال الإنشاء، إلى نهاية حياته إن كان هدم أو إعادة إستخدام بصورة كاملة أو بالتجزئة – أو من تأثير الإنسان عند إستخدامه للمبنى)، حيث يشمل نهج صديق للبيئة، من إستخدام مواد البناء إلى تصميم و تنفيذ أنظمة التدفئة و التبريد و إستخدام الطاقة الكهربائية و النفايات و غيرها، و دمجها مع المحيط البيئي، على ألّا تكون كجسم بكتيري ضار داخل النظام البيئي المتكامل.
و بهذا، فهي الداعم الأول لإستمرار النظام البيئي بصورته المتكاملة دون زيادة التأثير السلبي عليه، ففي جميع الاحوال، الأثر السلبي موجود، و الذي تعمل الإستدامة على تقليله (و الذي نستطيع تحديده بإنبعاثات ثنائي أوكسيد الكاربون CO2 و التأثيرات الكيميائية لبعض المواد – عن طريق المخلفات الغير معاد تدويرها – و التي من الممكن زيادتها بسبب الإرتفاع في درجات الحرارة) إضافة للتقليل من إستهلاك الماء و الطاقة (الموارد النفطية و غيرها من الموارد قصيرة الأجل).
يمكننا تلخيص أهم ما ترتكز عليه العمارة المستدامة بالنقاط التالية :
1. التقليل من تأثير الإنسان – بصورة عامة – على البيئة.
2. إستخدام الحد الأدنى للطاقة الضارة و المهدرة و إستبدالها بالطاقة المتجددة (الألزاح الشمسية و التهوية الطبيعية و غيرها).
3. الحفاظ على المياه (جمع مياه الأمطار و إعادة تدوير المياه الرمادية).
4. دمج العمارة المبنية – بسلاسة – مع المناظر الطبيعية المحيطة.
5. إستخدام مواد بناء متجددة و معادة التدوير.
6. إستخدام مواد بناء محلية قدر الإمكان للتقليل من الأضرار الناتجة عن خسائر النقل و مخلفاتها الغير نافعة.
7. إستخدام النباتات الطبيعية في الأسطح و المنافذ لتساعد على تبريد المبنى و تخلق بيئة صحية للبشر.

تاريخ نشوء الإستدامة

أتت فكرة الإستدامة أو بالأخص (العمارة المستدامة) من العمارة الخضراء، و التي تُعرّف على أنها عملية إنشاء مبانٍ صديقة للبيئة من مراحل الإنشاءات الأولية و حتى نهاية حياتها. و التي تختلف عن الإستدامة لكونها تركز على المبنى بصورة أساسية دون غيره، في حين أن الإستدامة تعمل للمبنى و للإنسان و البيئة.
نشأت فكرته أواخر القرن العشرين، في الذكرى السنوية ليوم الأرض الأول و الحركة البيئية السنوية، و التي ظهرت بعد الثورة الصناعية و ما أحدثته من أثار سلبية على النظام البيئي، فالعديد من الممارسات و المبادئ المستخدمة في العمارة المستدامة كانت متجذرة في البناء القديم، و الذي لم تُعرف قيمته إلا بعد ظهور الأضرار الصناعية.
برزت عدة حركات مؤسساتية خاصة (ربحية و غير ربحية) للعمل على الإستدامة المعمارية بصورة أشمل. بدأت حركة إحداها مع بدايات القرن العشرين 1921م و التي عرفت بإسم BREEAM (Building Research Establishment Environmental Assessment Method)، هي منظمة ربحية هادفة، تُعنى بإستثمار المشاريع البحثية للمنفعة العامة و أيضاً لترقية المرافق البحثية لدى BRE Science Park العائد لها.[2]
و هنالك منظمة اخرى، لكنها غير ربحية LEED Green ( Leadership in Energy and Environmental Design)، تُعرّف بأنها برنامج تأهيلي و توثيقي للمباني الخضراء الدائمة في جميع أنحاء العالم، نشأت فكرته 1993م، و تم تطويره من قبل USGBC ( U.S Green Building Council )، حيث يتضمن مجموعة من أنظمة التصنيف لتصميم و بناء و تشغيل و صيانة المباني الخضراء و المنازل و المقاطعات.
أمّا هيئة البناء و التشييد BCA (the Building and Construction Authority) فتعمل هذه الهيئة على تطوير و تحويل قطاع البيئة المبنية لتحسين بيئة المعيشة. حيث تعمل الشركة في مجالات السلامة و الجودة و الشمولية و الإستدامة و الإنتاجية لتشكيل بيئة ذكية خضراء.[3]

[2]  نبذة عن شركة بري من موقعها الرئيسي
[3] About Us, Building and Construction Authority, Last Updated: 02 February 2023.
أشهر المعماريين الذين عمِلوا على الإستدامة

أشهر معماريي هذا المجال (في وقتنا الحالي) هو المعمار كين يانغ Ken Yeang، عُرِف على أنه أب التصميم البيئي و خبير و رائد في مجال الهندسة المعمارية البيئة. عرّف المعماري الماليزي نفسه بأنه “عالم بيئي أولاً و مهندساً معمارياً ثانياً” .
درس في إنكلترا، حتى حصل على شهادة الدكتوراه في العمارة بلندن، و على دكتوراه في التصميم البيئي من جامعة كامبريدج.
المعمار فرانك لويد رايت Frank Lloyd Wright، عمِل بشكل رئيسي في منتصف القرن العشرين، و كان رائداً في فلسفة العمارة العضوية، و التي تأخذ بعين الإعتبار طبيعة الموقع المحيط بالمشروع و إحتياجات العميل و طبيعة المواد المستخدمة قبل الشروع في التصميم، و عمِل على توافق هذه العناصر مع بعضها.
رينزو بيانو Renzo Piano، المعمار الإيطالي الذي يعتبر من أكثر المعماريين صداقة للبيئة. لم يدع البيئة تحد من مخيلته و تضبطه على قواعدها الخاصة، بل تلاعب بأفكاره و انتج هياكل متداخلة مع المحيط.
و غيرهم (Glenn Murcutt, Thom Mayne, Norman Foster)
أمثلة عن العمارة المستدامة

أولاً : مبنى البرلمان الألماني (German parliament) \ نورمان فوستر (Norman F).

هنا، حيث يدخل الجمهور و السياسيون المبنى معاً، تبرز القبة في منتصفه، حيث ترمز لإعادة الميلاد، و تعمل على إضاءة المكان و تهويته طبيعياً، يوجد في منتصف القبة منحوتة ضوئية، حيث تعكس ضوء الأفق لأسفل القاعة، بينما يتبع وهج الشمس الطريق للتقليل من شدته. أما في الليل فتعكس الآلية، حيث تصبح القبة هي المنارة و التي ترمز الى حيوية العمل داخل البرلمان.[4]

[4] Foster + Partners, Reichstag, New German Parliament, 1999, Berlin \ Germany.

ثانياً : سولاريس (Solaris) \ حمزة و يانغ (Hamzah & Yeang).

يتألف المشروع من برجين مفصولين بردهة مركزية كبيرة جيدة التهوية، ترتبط الطوابق بسلسلة من الجسور السماوية و التي تمدت عبر ردهات الطوابق، إضافة للإستخدام الإبداعي للمناور و الأفنية للإضاءة الطبيعية و التهوية و وجود منحدر لولبي لدمج المناظر الطبيعية من الداخل. يعتبر المبنى نقطة محورية لمجتمع الشمال، و ذلك منن خلال إدخال مساحات تفاعلية مفتوحة، إمتداداً لمتنزه عام، حيث تشكل هذه الآلية رابطاً بيئياً.
و بفضل بنيتها التحتية البيئية الواسعة ، وميزات التصميم المستدام والمفهوم الأخضر الرأسي المبتكر ، تسعى Solaris جاهدة لتعزيز النظم البيئية الحالية في موقعها في سنغافور ، بدلاً من استبدالها.[5]

[5] Archello, Solaris by Hamzah & Ken Yeang, 2008, Singapore.
ثالثاً : مجمع منازل البحيرة \ عمارة كيسي براون Casey Brown Architecture. [6]

سبعةُ منازل صغيرة (غُرف) مرفوعة على منصة – لتجنب الفيضانات – مقابلة لساحل البحر في ويلز بأستراليا، إحدى أسباب فصل الغرف و إبعادها عن بعض هي عدم التأثير على المساحة البيئية الخارجية، و الإبقاء عليها كركيزة أساسية للمشروع، إضافة إلى الإستفادة من الإضاءة في النهار و خلق تيارات هوائية ما بين الغرف.
وجود أربع خزانات للمياه مدفونة تحت التربة لجمع مياه الأمطار، أحدها يستخدم لمقاومة الحرائق و النيران. و أحد النقاط الصديقة للبيئة الأخرى هي عملية إعادة تدوير النفايات بأكثر من طريقة، منها إعادة إستخدام مواد للبناء و غيرها من الأثاث.

[6] The New Ecological Home Material For Bioclimatic Design, Josep Maria Minguet, 2016.
الخاتمة

العمارة المستدامة ليست بحركة جديدة أو معاصرة، الإستدامة أو بالأخص (العمارة المستدامة) هو نظام و نهج حياتيّ، كنّا نعمل عليه قبل مئات السنين، و مع التطور و التكنلوجيا إبتعدنا عمّا هو أفضل (كإستبدال كلوكوز الفواكه بنظيره من الحلويات). لا يجب على الإستدامة أن تتجزأ عن كونها ركيزة للعمل على أو عن طريق.
أساس ما نعمل عليه – لحياتنا بصورة عامة، معماريين بصورة خاصة – الإنسان.. نحن، فإعتناءنا بأنفسنا هو أعتناءنا ببيئتنا، بأرضنا و مأكلنا و ملبسنا، منزلنا و كل من يهمّنا، لذلك علينا دِراسة و تعلم ما هية الإستدامة، و البدء بالبناء.

Share with us